حمزة الحسن
حين عاد القتلة من حفلة الدم الوحشية بعد دفن جثة الزعيم عبد الكريم قاسم في ضواحي ديالى، فوجئوا باختفاء الجثة، وأعلنت يومها حالة الطوارئ من قبل دولة كبرى بمقاييس البلدان النامية بحثا عن جثة هاربة للزعيم الذي ظل حتى اللحظة الأخيرة من حياته يرفض حوار السلاح، هو المحارب النظيف، الذي لم ينجب أطفالا بعد منتصف الليل، ولم يبح بسر صديق، ولم يخن أحدا، كما فعل الشباطيون، والعقداء الغجر، وفرسان الفصاحة والوصم والوشاية.
وحين ألقوه في النهر كي لا يصير رمزا، لم يكونوا يدركون لسذاجتهم أنهم صنعوا رمزيا أبديا، وأن المخيلة العراقية منذ أقدم العصور تربط بين الزعيم الغائب وبين الأنهار المقدسة، وأن أكثر حالات الانتظار قداسة عند العراقيين تلك التي تتم عند حافات الأنهار في مواكب احتفالية من الشموع والفرح والقداسة والأمل، وأن غياب جثة القائد في الأساطير والحكايات العراقية يجعلها حاضرة أبدا، ويخلق فكرة الانتظار المثمرة القادمة من الموروث الديني المحتفل بفكرة المنقذ والتغيير من انتظار المسيح وحتى انتظار المهدي، وهذا الأمل الايجابي بالعودة هو الذي حول الزعيم الغائب إلى رمز، كما تحول قتلته إلى روث في ذاكرة الناس، ولعنة عبر الأجيال كلما جاع طفل أو ناحت عراقية على ضفاف الفرات من الذل كناقة تائهة.
من قتل عبد الكريم قاسم؟
إن أية محاكمة منصفة تبحث من جديد عن قتلة عبد الكريم قاسم، لا تستهدف قطعا البحث في تفاصيل قضية جنائية، بل تستهدف إعادة الاعتبار لإنسان انتهكت حرمته حيا وميتا هو الذي صان حرمات حتى الذين حاولوا قتله، وتستهدف هذه المحاكمة محاكمة مرحلة، وإنصاف التاريخ قبل الرجل.
إن الزعيم عبد الكريم قاسم لم يحكم العراق لوحده لحظة واحدة، فحين دخل القصر الرئاسي (وكان ينام عند شقيقه حامد مثل أي جندي في وزارة الدفاع!) ليحكم وجد في انتظاره جوقة منفرة من الزعماء والحالمين والفاشلين، وتحمل بصبر أسطوري تلك المرحلة العجيبة من الضباط الانقلابيين الذين قتل أغلبهم بعد ذلك على أبواب دار الإذاعة أو سراديب الأمن أو علب الليل في صراعات حول السلطة، وماتوا وعيونهم مفتوحة مثل دجاج المزابل على هذا الكرسي المشؤوم الذي صار يلاحقنا ويطاردنا في كل مكان حتى هذه الساعات العصيبة.
وقد يكون الزعيم هو الرئيس الأخير الذي يخاصمه وزراؤه في الليل، فيزورهم في النهار، وهو المسؤول العراقي الوحيد عبر التاريخ الذي مات (دونما جاه أو قصور أو أطيان أو حتى ملابس مدنية)، وهو الرئيس الوحيد الذي حاول عبد السلام عارف أن يغتاله وجها لوجه بعد حوار ساخن في وزارة الدفاع، ورفع في وجه الزعيم مسدسه بحضور فؤاد عارف الذي اندفع نحو عبد السلام مع الزعيم وجرداه من مسدسه، وجلس في هذا الوقت معه يعاتبه عتاب صديق لصديق وتوسل إليه أن يقبل مؤقتا منصب سفير.
واليوم لا أحد يحلم أن يرفع يده للهتاف عند مرور الدكتاتور وليس رفع المسدس في وجهه ويظل هو أو عائلته أو بلدته على وجه الأرض.
أقرأ باقي الموضوع »